مواد صحفية

صيحة الطائر وقصيدة الشاعر؛ قراءة نقدية لديوان (صيحة طائر الكو) لإبراهيم ألماس

هذه (الصيحة) التي تم تسجيل ذبذباتها بدرجات متفاوتة في قصائد هذا الديوان [دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، ٢٠٢٣] هي أيضاً صيحة الشاعر وذبذبات جسده وصوته المتقطع، وليس فقط صيحة طائر الحجل الجبلي هذا،- الذي ترتبط صيحته بذوبان الثلوج وقدوم الربيع. والتشابه المجازي بين الصحيتين يمثّل بالنسبة للشاعر، على غرابته، علامة ورمزًا للارتباط بالطبيعة مكانا وفضاء وجوديا مكوَّنا ومكوِّنا للوعي في هذا العالم.

 

بقلم الناقد د. ضياء خضيّر في العدد الثالث من مجلّة الأقلام

 

وقصائد الديوان التي تصنع مسافة التوتر بين الثقافة مجسدة هنا في الكتابة، وبين الطبيعة العجماء متمثلة في صوت هذا الطائر، تطرح عبر نصوصها الطويلة والقصيرة، النثرية والموزونة، سؤال العلاقة بين القول الشعري بوصفه وسيلة اتصال وكشف، وبين طبيعة صامتة ولكن لها ألسنة ناطقة تتكفل صيحة هذا الطائر التي يلتقطها الشاعر، بالتعبير عن نموذج من نماذجها. والصعوبة لا تكمن في طريقة الاستبدال أو المحاكاة التي يحاول فيها الشاعر أن يقلد صوت الطائر ويتمثل وجوده الفريد في شعره، وإنما أيضا في هذه اللغة التي يجري اختلاس الانصات إلى صيحاتها المندهشة إزاء الكون المحيط اختلاسا. وصيحة الطائر الغامضة تحتاج إلى قصيدة الشاعر لترجمتها مع ما يحيط بها من أصوات وعلامات ومظاهر حياة. وحين يفعل الشاعر ذلك فإنه يعلن في الوقت نفسه عن إحساسه بالحياة ونظرته إلى المخلوقات والأشياء من حوله من خلال عين هذا الطائر؛ وبكلمة أخرى بالتيار الخفي الذي يسري بينه وبين الآخر المحيط، نهرا وحجرا، نباتا وبشرا.
وليس هناك في الديوان قصيدة برأسها تتحدث عن هذا الطائر الذي يربيه الكرد في بيوتهم، أو صيحته الجميلة ، ما عدا واحدة عنوانها (بعد غفوة قصيرة) يجري الحديث فيها عن طائر غير مسمّى يذهب وحيدًا في السماء، وليس له بيت في الأجراف المنخورة، ويتمنى الشاعر أن يكون مثله:
“إلى أين يذهب ذاك الطائر؟
وحيدا السماء
إلى أين يذهب وقد غسلت زخّات أيار ريشه
هل له بيت
وراء الشمس التي تندلق كخلية العسل في الأشجار
هل له بيت في الأجراف المنخورة؟
مثله
أريد أن أضع الأرض في جيوبي وأغادر
من دون رجعة ومن دون أثر
غير الصلبان المطبوعة على الطين المفطّر”
والشاعر الذي يزعم في إحدى قصائده بأنه غير معني بالأثر و “بالشجر الذي يثرثر” يأخذ على عاتقه مهمة الوسيط، والمترجم عن هذه الطبيعة بثرثرات أشجارها وأصوات أنهارها وأزهارها الظاهرة والمضمرة. وهو الذي يجعل من صوته ترجمان الأشواق في كويستان ومكحول وكل البطائح والبراري البكر في كردستان العراق. فهو العاشق لقبراتها “المتوجات بالذهب”، والمستيقظ مع “فجرها المحطم في الغدران” والمكتفي بنظرات فتاته المعلقة في عنقه “كقلادة من يشب”، والحامل لوردتها الثمينة في حلمه تميمةً “تشتعلُ في صدره”، مثلما تشتعل إلى جانب الطريق.
ومنذ أن رأى بودلير في الطبيعة “معبدا فيه أعمدة حية ولغة أزهار وأشياء صامتة”، والشعراء يحاولون استنطاق هذه الطبيعة وحل ألغازها، وإيجاد لغة خاصة يفهمون بها أسرار هذا المعبد وأعمدته الحية. ذلك هو ما تفعله القصائد الست والستون التي يضمها هذا الديوان التي كتب أغلبها بين عامي 2019 و2022.
الشاعر يحمل على عادته عدسة كلماته المصوّرة، ويقوم بجولته اليومية بين أعمدة هذه الطبيعة يسجل لقطات ومشاهد متنوعة للحجر “المبقّع” والشجر والريح والرائحة، ويصور لحظة ” سقوط الدينار الذهبي من جيب السحابة”. ويستمر، هكذا، بممارسة تجربة وجوده على هذه الأرض، وينقل شهادته عنها؛ ويحاول، خلال ذلك، اكتشاف نفسه وسط سهولها وجبالها وينابيعها. وهي التي تجبره أن يتخلى أو يتخفف من بعض قيود لغته المكتسبة وثقافته الموروثة، ويحتفظ، قدر استطاعته، بما هو صالح منها للتعبير عن إحساسه البكر بها وعلاقته المتجددة معها.
وحين تعود بعض نصوص الديوان إلى محاكاة بعض القصائد القديمة التي تجري حواراتها مع البشر والأشياء والكلمات بطريقتها الخاصة، فهي تُدخل الثقافة إلى عالم القصيدة بكيفية مضاعفة تفقد فيها اللغة الشعرية بعض كثافتها وانتمائها إلى نفسها، وتتحول إلى مجرد تقليد ينتمي فيه النص إلى منطق النثر، رغم ما قد يخالط البيت الشعري المفرد فيها من وزن وقافية. فهذه المحاكاة التي يجري فيها انتهاك لسياق علاقة الشاعر الحرة مع الطبيعة واللغة المستعارة، من شأنها أن تشوش على المعنى، وتدخل الكتابة في سياق مرجعي مختلف في نظامه اللغوي، ولا يعبر بدقة عن داخل إنساني يعتمد جوهر التعبير البلاغي فيه على الحضور الطازج في هذا العالم. وذلك يحدث في هذا النوع القليل من القصائد التي تتكئ على ذاكرة الشاعر وتوظف المعجم اللفظي القديم وسياقه التاريخي لخدمة أفق ثقافي مختلف زمانًا ومكانًا. وهو يعرف، كما يبدو، أن نصا من هذا النوع ينبثق من نص أو نصوص أخرى سابقة الوجود، ولكنه يواصل ممارسة اللعبة داخل قالب يقدمه الموروث لكي يبعد الاتهام بأنه يقوم بكسر عنق البلاغة في بقية قصائده على نحو منظم.
“أعود على هدي القدامى وأقتفي
أغانيَهم في الليل، والليل سارقُ
تعاوتْ عل بابي رياحٌ واوّبتْ
فقلتُ: تُرى من ذا على الباب طارقُ” الخ..
وهو يفعل مثل هذا في مقطع من مقاطع قصيدته المهداة إلى سعدي يوسف بمناسبة رحيله
رأيناك في الودي المقدّس حومت
حواليك في ليل العراق الملائكُ
رضينا الركايا يا ابن يوسف منهلًا
ودرب الأغاني، قد خبرناه، شائك
لدينا من الريح الطويلة ثروة
ومن قمر فوق القلاع السبائك
وهي، كما نرى، استعارة أو استعادة تحدث أكثر من مرة، لسياق غائب دون انتباه إلى أنه قد يتسبب في تشويه سياق حاضر؛ سياق تفاعلي، حواري دأب الشاعر فيه على خلق توتر بين قول شعري يمثل مرآة يرى فيها نفسة، ونافذة يطل منها على غيره.
وعينا الشاعر اللتان تشبهان “شبابيك مشرعةٌ” ما يفتآن يجوسان بين أشياء الطبيعة وتلالها المصفرّة، على نحو تبدو الكلمات فيه مبعثرة “مثل هجرات القطا”، وعاجزة عن التعبير عن حقيقة ما يجري أمام ناظريه وشاشة وعيه.
ومع أن هذه ” الكلمات كثيرة”، كما يضيف، فإنه يعتذر مضطرًا عن الكلام :
“أعتذر لكم عن صمتي
أعتذر لكم عن ريح حزيران وهي تدفع
الطيور المهاجرة
بعيدًا عن يديّ الملوحتين”
ريح حزيران، والطيور المهاجرة، واليدان الملوحتان، مظاهر وآيات، وكائنات حيّة، وحركات، يمكن الإحساس بها وملاحظتها، ولا يصلح غير الصمت إزاءها. فشفرتها اللغوية مختلفة، وليس هناك غير اللغة الإشارية والسيميائية المشفرة للتعبير عنها أو التعليق عليها. مع أن ما يكتب يبقى لغة ثانية موضوعة كتعليق على متن تلك اللغة الأولى وعلاماتها الدالة. ومع ما بين اللغتين من تعارض ثنائي مثل ذلك الموجود بين اللغة والكلام، بين المتن والهامش، الأصل والصورة، فإن هذه اللغة الثانية تبقى، على جمالها الآسر، أقلّ ثراء وبداهة من اللغة الأولى. الأمر الذي يدفع الشاعر أحيانًا إلى الاكتفاء بالتأمل والصمت، والاعتذار عن مواصلة الكلام على طريقة الصوفيين، كما رأينا.
أنا شاعر فظّ
في داخلي وحش كلما حاولت تمدينه
عضّني من قلبي ساعة المطر..
ويقول في قصيدة أخرى:
جاءت جارتي تجرُّ خفّين ذهبيين كجناحي الحجل،
جاءت من بعيد صاعدة الربوة،
جاءت عبر العشب اليابس،
العشب المائل..
العشب المائل مثل لحى الصوفيين في “سنندج”
طرقت بابي
وأعطتني صحنًا مليئًا بالإجاص الجبلي
وإذا ما أمكن قول كلمة في هذا الديوان لتبيّن النغمة العميقة السائدة فيه، وفي مجمل التجربة الشعرية لإبراهيم الماس، فسيكون من الصعب وضعه ضمن خانة الشعر الرومانسي أو الرعوي الذي ينتمي إلى حقبة سابقة في الذاكرة الشعرية الأوربية، أو إلى الرومانسيات العربية الحديثة التالية من الناحية الزمنية. ففي هذا الشعر ملامح متفردة تندّ عن التصنيف، يأتي في مقدمتها إدراك الشاعر لعمق العلاقة مع الطبيعة التي يعيش فيها، ويتغنى بجمالياتها، على نحو يقرّبه من الصوفيين والعاشقين الكبار. وهي طبيعة ليست محددة بمكان دون غيره، مع أن الشاعر ينطلق فيها، كما نعرف، من إقليم كردستان أو من مناطق محددة فيه، حيث يعيش في جبال بنجوين صيفًا، وسهل شهرزود صيفا بمحافظة سليمانية، بعد أن كانت طفولته ونشأته الأولى في آشور (الشرقاط)، قرب جبل مكحول الذي يفصله نهر دجلة عن جبال حمرين عند الفتحة. مع أنها تظل من الناحية الشعرية أرضًا بلا زمن، يحملنا حديثه عنها ووصفه لها إلى فضاء يتجاوز حدود التاريخ والجغرافيا ليدلنا على أرض ومعنى مطلق يتجاوز حدود المكان نفسه.
وإبراهيم الماس، الذي يعمل مدرسًا للغة الإنكليزية ويتكلم العربية إلى جانب الكردية ويقف على محور تتقاطع فيه ثقافتان ولغتان، يحب مثل كل الشعراء الحقيقيين الحرية والغموض؛ وتنطوي كتابته على شيء من البداهة والعفوية، وخلق الصور المبهمة، وتسجيل المشاهد المفعمة بالحيوية والحركة. وقصائده كلها ممزوجة بنزعة وجودية ووعي فلسفي تصوفي وتأملي يحاول الشاعر من خلاله أن يتبيّن موقع أقدامه ووضعه البشري على هذا الأرض بعد أن جرى إهمال وجوده فيها، وما ينطوي عليه من غربة وغرابة نتيجة الإلفة والخدر العقلي والاستسلام لما يسميه مارتن هيدغر بالوجود الزائف. وهو قادر دائما، كما نرى، أن يمزج في كتابته الشعرية أساليب الوصف والغزل والأغراض التقليدية الأخرى باستعارات جديدة.
والطابع الرومانسي العام لهذا الشعر لا يحرمه من خصوصية التعبير والتصوير بوصفه كتابة متحررة من الإلزامات البلاغية التقليدية التي تجعله مختلفا بعض الاختلاف في شكله ومحتواه.
كما أن المؤثرات المحلية والأجنبية في هذا الشعر لا تمارس أثرا سلبيا على بناء القصيدة، حتى إذا كانت بعض ملامحها موجودة بهذه الطريقة أو تلك في بعض القصائد مثل عطر أو أضواء بعيدة.
وهو أمر يمكن ألإحساس به، وليس تعيينه، في بعض ما تقدم الاستشهاد به من نماذج نصية قليلة، وكذلك في هذه القصيدة المسماة (فرو ثمين). ففيها، كما نرى، شيء من النظر إلى بعض القصائد الرومانسية الإنكليزية، وشعر لوركا الإسباني على نحو خاص؛ في لغتها البسيطة النقية، وما فيها من تكرار، وما تنطوي عليه من مسحة غنائية وصدق يقترب فيه الشاعر مثل صاحبه الإسباني من روح الإنسان البدائي، وما يتجلى فيه من عنصر الانتماء إلى الأرض والإرادة الطليقة التي تتيح للإنسان أن يسترد ذاته ويتكامل مع ما يحيط به، ويسلك ما يسميه لوركا “مسلك الغجري الحر”. وذلك يحدث على صعيد تشابه التجربة في جانبها الفني ومحتواها العام، وليس على صعيد المقابسة أو التأثّر المباشر بالضرورة.
فرو ثمين
أمان .. أمان
نامت السناجب في صدر الأشجار
المنخورة
أمان .. أمان
وقع القمر العريض مثل الدف من بين يدي الصوفي
وقع وراء كثبان الثلج؛
وعلى الأغلب أكلته الكلاب!
أمان ..أمان
أغمضت المسالك جفونها
لكن القصدير لم ينم ، ظل يصفر كالبوق
في ليلي
أمان .. أمان
ألا كل شيء ما خلا الأغاني باطل
أمان .. أمان
أيتها الأغاني دثيريني بالفرو الثمين
ودثيريني بالأبد..
كما أن بعض نصوص الديوان تبدو، كما قلنا، غامضة تموّه على قارئها أحيانا، مما يجعلها بحاجة إلى نوع من القراءة التأويلية للكشف عن تمام المعنى الكامن فيها، كهذا النموذج من قصيدة صغيرة بعنوان (موسيقى)، نختتم به هذه القراءة النقدية السريعة:
موسيقى
في اليوم الأول
التقى رجل وامرأة عند شجرة السدر
في اليوم الثاني افترقا
ذهبت المرأة إلى التلال
وعمرت بيتا بشبابيك مفتوحة..
ذهب الرجل إلى النهر
والتقط من الأرض قصبةً يابسة
وراح ينفخُ فيها!
بينما ظلت الريحُ حائرة
بين النهر والشبابيك!
فهذا التمويه يبدأ من العنوان الذي لا علاقة واضحة له بالموسيقى ، مع أنه ينطوي على شيء منها، كما سنرى ذلك في ما بعد.
وهذه القصيدة الصغيرة تصلح أن تكون نموذجًا يمكن أن نتبيّن من خلاله فرادة هذا الشعر وتميزه. وبناء القصيدة السردي المخاتل الذي يبدو، أشبهَ بالأقصوصة التي تدور حول علاقة ما بين رجل وامرأة يلتقيان عند شجرة سدر ثم يذهبان لحال سبيلهما دون أية إشارات أخرى.
وليس هناك ما هو واضح على سطح النص من ناحية المعنى والدلالة التقليدية يجعل هذه الأقصوصة الشعرية من ذلك النوع الذي ينتهي بعلاقة حب تحصل عادة بين الرجل والمرأة، نتيجة اللقاء المجرد وغير المحدد بغير مكانه عند شجرة السدر.
غير أن معاودة القراءة والتأمل في الفراغات الموجودة بين أفعال السرد وسلوك الفاعلَين الرئسين في النص قد يطلعنا على شيء آخر مختلف فيه.
الرجل والمرأة صامتان لم ينطقا ببنت شفة مع بعضهما. لقد اتخذ كلٌّ منهما طريقه المختلف عن طريق الآخر إثر ذلك اللقاء الوحيد.. المرأة نحو التلال، والرجل نحو النهر.
غير أننا نكتشف أن التراسل بينهما لم ينقطع حتى إذا لم تكن اللغة بوظيفتها التواصلية المعروفة هي الأداة الفاعلة فيه. وما يبقى على قيد الاشتغال لتحقيق هذا التواصل هو الجانب السيميائي الذي تقوم فيه العلامة بدور الاتصال وتوليد المعنى الرمزي بطريقة لا تقل بلاغة ووضوحا عما تقوم به اللغة البشرية نفسها. وقد تكفلت الشبابيك المفتوحة في البيت الذي عمرته المرأة عند التلال، والقصبة التي التقطها الرجل من الأرض عند النهر، بوصفهما علامتين سيميائيتين، بتقديم الدليل على أن ذلك اللقاء الذي حدث بين الرجل والمرأة عند شجرة السدر لم يكن عابرا، ولم ينته كما بدأ. فنايُ الرجل أو قصبته اليابسة بما تحمله في شكلها من رمز ذكوري وصوت محمّل بعواطف ورغبات مكتومة، قادر على أن يوصل الرسالة إلى شبابيك تلك المرأة في بيتها عند التلال بكل ما يحمل انفتاح تلك الشبابيك من حمولة رمزية أنثوية مقابلة.
والريح “الحائرة” بين النهر والشبابيك، هي القناة الناقلة لهذه الرسائل المتبادلة بين الرجل والمرأة. وهي شخصية فاعلة في الحكاية تضاف إلى الرجل والمرأة. و حيرتها يمكن أن تحمل إشارة أخرى على ارتباك هذه العلاقة أو اختلالها. فموقع المرأة ببيتها المعمّر في التلال يبدو أكثر ثباتًا وقوة من موقف الرجل بقصبته اليابسة وموقعه عند النهر الجاري والمتموج مع تموجات الصوت الخارج من النفخ في القصبة. كما أن الشبابيك المشرعة للريح في بيت المرأة تجعل منها مرسلة وفاعلة، لا متلقية أو مستقبلة فقط، باعتبار أن وظيفة هذه الشبابيك و(الشبكة) المرتبطة بها على صعيد الدلالة اللغوية تجعل منها مرسلة هي الأخرى، ما دامت شباكها مهيأة للصيد وإيقاع الرجل في شباكها. وهو ما يمكن أن يكون سببًا إضافيًا يفسّر (حيرة) الريح التي تلعب دورا سرديا حيويا في حركتها المترددة بين النهر والشبابيك.
أما الموسيقى الموضوعة في العنوان فتستمد وجودها المجازي من الحركات أو المقاطع الثلاث في النص التي تتماهى مع كلمات القصيدة المكتوبة فيها مع الحركات الثلاث الأساسية في الموسيقى السيمفونية. وهي الحركة الأولى التي تمثل الافتتاحية السريعة، والثانية البطيئة الشارحة، والختامية الأخيرة، السريعة عادة في تطور البناء السيمفوني الغربي، قبل أن يضيف هايدن إليها حركةً رابعة ذات طبيعة راقصة يعرفها أهل الاختصاص من الدارسين والموسيقيين.
والتماثل الذي قلنا إنه مجازي بين الجانبين، لا يخلو من تمويه يحتاج إلى شيء من التأني في قراءته. فهو موجود في العنوان الذي يحمل كلمة (الموسيقى)، مع ان النص بمقاطعه الثلاث ذو إنشاء نثري خال من الوزن والقافية. في حين أنه ينطوي على هذه الموسيقى ، روحها وإيقاعها في تشكيل صوره وفجواته الزمنية والمكانية، وطريقة ترتيب أفعاله السردية، وتقسيمه الدال إلى مقاطع أو حركات ثلاث، بالإضافة إلى منحاه الغنائي العام الذي يسنده وجود القصبة أو الناي الذي يستخدمه الرجل كجهاز يبعث، من خلاله، رسائل صوتية موقعة توقيعًا موسيقيًا إلى تلك المرأة، بدلًا من الكلام.