فـؤاد دحـدوح: شهيّة مفتوحة عـلى التجريب
د. محمود شاهين
رغم مواهبه الفنيّة الحقيقيّة، ونتاجاته المتميزة الموزعة على أكثر من جنس ولون فني، لم تأخذ تجربة الفنان التشكيلي السوري فؤاد دحدوح (مواليد دمشق 1956) ما تستحق من الدراسة والاهتمام والتقدير، فهذا الفنان الذي تخصص بفن النحت (درسه في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وتابعه في باريس، ثم معيداً موفداً إلى أكاديميّة الفنون بالعاصمة البولونيّة وارسو، حيث حصل منها على درجة الدكتوراه في علوم الفن، وعاد ليعمل مدرساً لمادة النحت في كلية الفنون الجميلة في دمشق) يمارس إلى جانب اختصاصه الأكاديمي، إنتاج اللوحة التعبيريّة المتعددة التقانات اللونيّة، وفن الميدالية، وتصميم الشعارات (اللوغو) وجوائز المهرجانات والملتقيات، والديكور التلفزيوني، والغناء، وفنون التصميم المجسم والمسطح، وأثبت حضوراً لافتاً فيها جميعاً، مع ذلك ما زال مجهولاً لدى العديد من المهتمين والمتابعين لحركة الفن التشكيلي السوري المعاصر بسبب زهده بالأضواء والمناصب، وتواضعه الجم في تقديم نفسه، والتعريف بمقدراته ومواهبه الكثيرة، ولاسيّما في مجالي النحت والتصوير اللذين يمزج في العديد من أعماله بينهما، بشكل يختلط على المتلقي، نسب لوحته إلى (النحت النافر) أو إلى (التصوير) لشدة تماهي الفنين فيها، ما يدل على مقدرته في التعاطي مع الفنين العريقين، وإخضاعهما لحالة توافق وانسجام كرست قيمهما الفنيّة، وعمّقت الحالة التعبيريّة لموضوع اللوحة-المنحوتة.
اعتمد الفنان دحدوح منذ البدايات الأولى لتجربته الفنيّة، وما زال، الصياغة الواقعيّة التعبيريّة المنفذة بتلقائيّة وخبرة في آنٍ معا. أقام مؤخراً معرضاً لأعماله في صالة المعارض في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، ضمنه آخر نتاجاته الفنيّة من اللوحات الكبيرة المنفذة بتقنية خاصة ضائعة بين التصوير والنحت النافر، تشغل بعضها وجوه واسعة تذكرنا بوجوه الفنان التشكيلي السوري المقيم في ألمانيا مروان قصاب باشي، وبعضها الآخر، تشغله هيئات أجساد عارية، لديها الوجوه المستديرة المدهوشة نفسها (والمشوهة أحياناً)، وزعها الفنان ضمن كوادر مدروسة، وبوضعيات تعكس حالات إنسانية متباينة متأرجحة بين الحب والخوف والخواء والحزن والحنان والحصار، تؤديها هيئات إنسانيّة واقعيّة محوّرة، مؤطرة، أو مركونة في فراغ رحب ومفتوح، مشغول بانزياحات وتداخلات ألوان وخطوط سوداء عفويّة، أو منضدة َضمن مساحات ملوّنة، مشبعة بالضوء. تنم تعبيرات هذه الهيئات عن أحاسيس متباينة الماهيّة، تبعاً للحالة الشعوريّة التي تتلبس الفنان أثناء قيامه باجتراح فعل الإبداع، وهي عموماً تعكس حالة شعوريّة ذاتيّة مرتبطة بمعاناة الفنان بوجهيها: الإيجابي أو السلبي، أو هي جمعيّة رشحت إلى كيانه مما يدور حوله من أحداث دامية وضاغطة عاشها بشكل مباشر، أو وصلت إلى أحاسيسه بتأثيرات عوامل أخرى مختلفة، ولأن جملة هذه الانفعالات والمؤثرات والعواطف، تأوي إلى مختبره الداخلي، يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، قبل أن تظهر فوق سطح العمل الفني، على شكل تداعيات، وشحنات تعبيريّة عميقة، تعكسها ملامح ووضعيات شخوصه المتباينة الشكل والمضمون والحالة الشعوريّة، والطريقة التي يُحوّر فيها نسبها التشريحيّة التي تصل إلى مبالغات مدهشة.
لقد شكلّت هذه الصياغة التشكيليّة التي بدأها خريجو كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، مطالع سبعينيات القرن الماضي، أمثال: فؤاد أبو سعدة، عبد القادر عزوز، عبد الله مراد، محمد الرومي، إبراهيم جلل، ماجد الصابوني، محمد ديب المصري… وغيرهم، منطلقاً للتجارب التي جاءت بعدهم ويمثلها: فؤاد دحدوح، إدوارد شهدا، غسان نعنع، وليد الشامي، زهير حضرموت، سعد يكن، حمود شنتوت، أحمد معلا، إبراهيم الحميد… وغيرهم.
يرى الفنان فؤاد دحدوح أنه لا فرق بين (التصوير) و(النحت)، فالمصوّر يجسد الجمال في اللون، والنحات يجسده في الكتلة الفراغيّة، وقد قدم تاريخ الفن أمثلة كثيرة عن فنانين مارسوا الفنين من هؤلاء: بيكاسو، ماتيس، جوجان… وغيرهم. ويؤكد أن الفنون وحدة متكاملة، والعنصر المشترك بينها هو الإحساس أو (الحس)، فما دام يوجد عند الفنان إحساس فلا شك في أنه متنوع المواهب، مثال ذلك شيخ الفنانين ليوناردو دافنشي الذي سُئل وهو يجدُّ في السير: لماذا أنت مسرع والثلوج تغطي المدينة فقال: عسى أن أتدارك الوقت قبل أن يفوتني، لأتعلم شيئاً من الموسيقا، وكان يومها على مشارف الثمانين من العمر.
وعن تركيزه على المرأة في أعماله يقول إن الهيئة الإنسانيّة من أصعب المواضيع في الفن على الإطلاق، وهو ما أكده الفنان (ديغا) عندما قال إننا جميعاً نستطيع أن نرسم أشجاراً، ولكن من الصعب علينا أن نرسم يد إنسان. ولأن المرأة محور الجمال ورمزه الأبرز، فقد كانت ولا تزال المفردة الرئيسة في أعماله الفنيّة، سواء أكانت نحتاً أم تصويراً، أو تلك التي تجمع بين الفنين معاً، وهذه الأعمال بشكل عام، تمتلك شخصية فنيّة واحدة يراها ضروريّة، لأن الفنان الذي لا يملك شخصية واضحة ومتميزة في أعماله، يكون أقرب للحرفي منه للفنان، وبالنسبة له، سيبقى مفتوح الشهية على البحث والتجريب في وسائل التعبير جميعها، وتالياً سيختار اللغة الأقدر على التجاوب مع حالته الشعوريّة الآنيّة، والتعبير الأمثل عنها، سواء أكانت تصويراً، أم نحتاً، أم غناءً، أم تصميماً مسطحاً أو مجسماً، ويرى الفنان فؤاد دحدوح أن الغناء أثناء ممارسته الفنون البصريّة المختلفة، يمنح منتجه نوعاً من الشاعريّة الخاصة، ذلك لأن الغناء موجود في كل مكان وزمان، وموجود في كيان الإنسان: في روحه وخاطره ودمه