مواد صحفية

سامر محمد إسماعيل يكتب في الاندبندنت عربية عن كتاب (التاريخ الثقافي للألم)

كتب الصحفي سامر محمد إسماعيل بتاريخ الخميس 18 تموز 2024 مقالة عن ‏كتاب (التاريخ الثقافي للألم) الذي أصدرته دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ‏مؤخراً وذلك في موقع صحيفة (اندبندنت عربية).. وإليكم نص المقالة:‏
الألم حارس الحياة والعين الأكثر يقظة وانتباهاً
الإسباني خابيير موسكوسو تتبع سردية المعاناة الإنسانية في كتابه “التاريخ ‏الثقافي للألم”‏

سامر محمد إسماعيل
ملخص
نشر كتاب “التاريخ الثقافي للألم” للكاتب الإسباني خابيير موسكوسو للمرة الأولى في ‏‏2011، وفي عام 2012 صدرت الترجمة الإنجليزية له، فيما حصلت النسخة ‏الفرنسية من هذا الكتاب على جائزة المكتبيين الفرنسيين لأفضل كتاب تاريخي في ‏عام 2015، واليوم ينقله إلى العربية المترجم والكاتب الفلسطيني حسني مليطات، ‏فنتعرف معه إلى “سردية الألم في الثقافات العالمية”، لكن ليس من منظور أدبي ‏وفني وفلسفي فحسب، وإنما من منظور طبي، سريري أيضاً، لتشكل موضوعاته ‏محوراً من محاور العبور إلى التخصصات العلمية والإنسانية.‏
يأخذنا الكاتب الإسباني خابيير موسكوسو في كتابه “التاريخ الثقافي للألم (“دار نينوى ‏‏– دمشق) إلى مناقشة عديد من الموضوعات حول الألم الذي يقتفي الأكاديمي ‏الإسباني سرديته عبر العصور كظاهرة ثقافية، ويتجلى ذلك في موضوعات عديدة ‏تطرق إليها المؤلف في فصول كتابه، وخلافاً لما أكده إميل سيوران (1911-1995) ‏باستحالة اللقاء أو الحوار مع الألم الجسدي، فإن كل صفحة من صفحات الكتاب ‏‏(456 صفحة من القطع المتوسط) تدعو إلى هذا اللقاء، وتعزز هذا الحوار، فما بين ‏التاريخ والفلسفة والطب وفن الأيقونات والأدب الروائي، يطرح موسكوسو أمثلته عن ‏الأشكال المتتابعة لتجسيد تجربة الأذى، وعن الأساليب الفنية والقانونية والعلمية التي ‏أتاحت للبشرية منذ عصر النهضة وحتى أيامنا هذه، الفهم الثقافي للمعاناة الإنسانية.‏
الألم والتاريخ
يذهب أستاذ العلوم والفلسفة في المجلس الوطني الإسباني للبحوث إلى أن مجموعة ‏الصور والأيقونات المزخرفة على مذابح القديسين شكلت جزءاً من مجموعة الصور ‏المرتبطة بالألم الجسدي أو المعاناة الجسدية التي أنتجت نهاية العصور الوسطى، ‏فالعنف الذي صورته أعمال الرسامين من أمثال: بيتر بروغل وجان كالوت ولوكاس ‏كراناخ، لمشاهد الشهداء المسيحيين وأحكام الإعدام والتعذيب، عبرت عن آلام ‏المسيح على الصليب في سياق مسرحي اعتمدت فيه المشاهد على مبادئ واتفاقات ‏طقسية، من مثل لوحة “الطريق إلى الجلجلة” للرسام بيتر بروغيل (الأكبر).‏
لقد وجد المؤلف في الأيقونات التي تجسد استشهاد القديسة باربارا للراهب ‏الدومنيكاني ماستر فرانك، تمثيلاً لانتصار الإيمان عبر تعذيب الجسد، وكان الجسد ‏في هذه الأيقونات يتعذب بهدف التعدي على العفة والطهارة، وتماشياً مع طقس ‏عبادة الشهيدة العذراء الذي كان شائعاً في نهايات العصور الوسطى في أوروبا. إذ ‏عرف التعذيب وقتها بأنه عنصر مثير للشهوة الجنسية، ومن هذا المنطلق يصور ‏الكتاب التعذيب كوجه من وجوه العنف الجنسي، كما في لوحة “الجلد” للرسام ‏الكتلاني لويس بوراسا.‏
فن العقاب
وكان “فن العقاب” جزءاً من التاريخ المروع للألم. إذ كان للمشاهد دور كبير في ‏دراما الألم، فحتى عندما نفترض استحالة مشاركة التجارب الحسية للآخرين، فإنه لا ‏يوجد مشهد من العذاب والألم يبقينا غير مبالين كبشر، بل على العكس، يمكننا من ‏خلال الأحاسيس المتداخلة فقط التفاعل أمام الوحشية والهمجية، ففي القرن الـ18 ‏عرف الفيلسوف ديفيد هيوم (1711-1776) التعاطف بأنه طريقة مشاركة الألم أو ‏المتعة مع شخص ثالث، أما إدموند بيرك (1727-1797) فتصور التعاطف صورة ‏من صور الاستبدال الذي يمكننا من خلاله أن نضع أنفسنا مكان شخص آخر، حتى ‏نصل إلى نقطة الشعور بمقياس انطباعاته الخاصة به. وبتأمل المتهم على آلة ‏التعذيب، كما يقول آدم سميث، “يمكننا أن نشكل تمثيلاً من مشاعره التي تجعلنا ‏نتصور أنفسنا مكانه، وأننا نعاني ما يعانيه من عذابات، لندخل، إذا جاز التعبير، ‏جسده”. ‏
تاريخ الألم في بعديه الثقافي والفني تجلياً في القرن الـ19 أيضاً بحوادث الانتحار ‏والقتل، وهذا ما يستشهد به مؤلف الكتاب عبر مناقشته روايات مثل “الجريمة ‏والعقاب” و”الأخوة كارامازوف” لدوستويفسكي، أو رواية “تيربز راكان” لإميل زولا التي ‏تحولت موضوعاً للتسلية والاستهلاك، وصار العنف المنزلي بوجود القوانين ‏والأعراف المتساهلة اتجاه اغتصاب النساء وإساءة معاملة الأطفال أمراً مستساغاً. ‏كل هذا حول المدن الأوروبية في القرن الـ19 إلى مرتع للظلم والأحقاد.‏
وكان للأدب والفلسفة في القرن الـ19 تمثيلهما الناصع أيضاً للألم عبر أعمال كل ‏من ليشتنبرغ وفينكلمان وشوبنهاور وهيغل، وذلك بعديد من الإشارات إلى دلالة ‏وفائدة الألم للحياة والفن والتربية والتاريخ، فكان لرواية “آلام الشاب فرتر” لغوته ‏مكانتها، وهي قصة حزينة عن خيبة أمل غرامية ستحظى باهتمام اجتماعي كبير، ‏وسواء فكرنا بأعمال شيلر أو هولدرلين، فإن المعاناة في ذلك الزمن اكتسبت دلالات ‏ومعاني جديدة، عندما يفكر فيها العارف بوسائل المأساة، وهذا ربما ما دفع نيتشه ‏إلى القول: “إن الألم هو الحيوان القادر على حملك بسرعة شديدة إلى الكمال”.‏
وفي إطار ذلك لم يعد من الممكن النظر إلى تجربة الألم واللذة على أنهما ‏مصطلحان متعارضان، بل على العكس، فـ”اللذة تكمن في الألم” كما يقول ‏موسكوسو، من دون أن يكون ذلك تعبيراً مجازياً فحسب، ففي كتابه “إرادة القوة” ‏يوضح نيتشه هذه الفكرة مع الحالة العاطفية التي تحدثها الدغدغة لحظة الجماع. ‏ولقد وظف صاحب “ما وراء الخير والشر” مثاله لتأكيد نحو واسع، على أن اليأس ‏عنصر من عناصر اللذة.‏
نظرية فلسفية
ويعيد موسكوسو الشعور العام بالألم إلى نظرية الفيلسوف سيزاري بكاريا (1738-‏‏1794) في أطروحته المعنونة: “الجرائم والعقاب” فالمتعة هي صنو الألم، وهما قوى ‏محركة لكل الكائنات المدركة، فتعذيب الجسد لا يعانيه السجين فقط، وإنما يعانيه ‏أولئك الذين يفكرون في تطبيق العقوبة أيضاً. من هنا وعى إنسان عصر التنوير أنه ‏ينبغي إدارة الألم باستخدام معايير ذات طبيعة اقتصادية صارمة مرتبطة بالشعور ‏العام، بدلاً من ارتباطها بحجم الجريمة. إذ كان ينبغي التحكم بالتعذيب من خلال ‏التأثير الذي يخلقه المشهد في مخيلة الشهود. ومن دون الاعتماد على إيماءات ‏وعلامات معاناة المدانين أنفسهم، أما العقوبة فينبغي لها أن تحدث تأثيراً أكثر فاعلية ‏وديمومة في ذهن البشر لردع الجريمة فقط.‏
لقد أدرك مفكرو عصر التنوير في أوروبا الكيفية التي يتم فيها القضاء التدريجي ‏على الإجراءات القضائية الخشنة، والمرتبطة بإحداث الألم المتفاقم في أجساد ‏المتهمين، فممارسة التعذيب من خلال المشنقة والنيران المشتعلة والرجم بالحجارة ‏والمقصلة، سيفسح في المجال أمام أنظمة عقابية أكثر دقة وحدة. هكذا -وعلى نحو ‏تدريجي- استبدلت المشاهد الوحشية الهائلة التي رافقت عمليات الإعدام أو ‏الاستجوابات القضائية نهاية العصور الوسطى إلى تدابير ضابطة وطرائق عقابية ‏أقل وحشية، بينما استخدم العالم الحديث المفاصل العضلية والمستقبلات الحسية ‏والأنسجة العصبية، فسعى عصر التنوير إلى فرض الاعتراف من دون ألم أو قيود.‏
التفكير في تقنين الألم جعل الشروع باختراع عقوبات من مثل الإقامة الجبرية، ‏فانخفض خطر العنف الجسدي في وقت حدث فيه الارتياب من إساءة معاملة ‏الحيوانات، والقوانين الجنائية الخاصة بالجيش، إضافة للعقاب البدني للعبيد ‏والمجانين والمعزولين صحياً والأطفال، ووفقاً لذلك اختفت تدريجاً تلك المشاهد ‏الوحشية التي رافقت عمليات الإعدام من المشهد العام للإنسانية، إذ اكتشف الأطباء ‏أن من يتعرض للإعدام بالمقصلة يظل دماغه يستقبل إشارات الألم والصدمة حتى ‏بعد فصل الرأس عن الجسد.‏
ومع نهايات القرن الـ18 وبدايات القرن الـ19 كما يبين الفيلسوف الفرنسي ميشيل ‏فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة”، لم يحدث أي تقييد على فن العقاب، بل تحول ‏من فعل إدانة للجسد إلى انقباض للروح. وهذا ما يشرحه الكتاب بتحول عقوبات ‏الجسد إلى سياسات اجتماعية جديدة أدت إلى ولادة “عقوبة السجن” التي توضح ‏تقييد سلوك السجناء بفقدانهم حرية، واستبدال مشهد المعاناة الجسدية بمشهد عزلة ‏الزنزانة والعمل القسري والأشغال الشاقة وصمت السجون، وهذا ما بدأ في مناطق ‏من أوروبا والغرب وإن عبر تواريخ متباينة.‏
ظاهرة التخدير
ان التعايش مع الألم إلى موضوع دراسة، كما سيحدث في القرن الـ20، وإنما إلى ‏سيجعلها أداة من أدوات البحث المعرفي، فقد أدى اكتشاف التخدير الكيمائي إلى ‏وجود أبحاث عن الوظائف العضوية المدعومة باستخدام تشريح الأحياء، وظهور ‏علم النفس التجريبي، إضافة إلى تقدم الطب السريري. هكذا استبدل علم الوظائف ‏‏(الفيزيولوجيا) الجديد، الفرضيات التأملية القديمة إلى البرنامج الإمبريقي (التجريبي) ‏الذي اعتمد كثيراً على درجة التجريب الحيواني، وتالياً على الإنتاج القصدي للألم، ‏ففي فرنسا مثلاً سوغ أكثر الكتاب تمثيلاً لشكل هذا العلم الفيزيولوجي الجديد طريقة ‏العنف الجديدة في الاقتناع بأن النظام العصبي لجميع الثدييات محكوم بالقوانين ‏نفسها، وبذلك يمكن للحيوانات أن تحل محل البشر، لتصبح فئران المخابر بذلك ‏‏”الشهداء الجدد للحقيقة”.‏
كما وطد الطب الصلة بين أعراض المرض والإصابات العضوية، وبما أن الأعراض ‏تعتمد على الإصابات، فإن المؤسسات استبدلت بقصة المريض حكاية أعراض ‏مرضه، ولهذا الغرض تم اختراع سماعة الطبيب وميزان الحرارة وجهاز ضغط الدم ‏والأشعة السينية في عام 1859، وأصبح لكل تجويف أو فوهة في الجسد الإنساني ‏مصدر مخصص للبيانات، وتطورت أدوات قياس الألم مع اختراع جهاز تخطيط ‏العضل الذي طوره هيلمهولتز عام 1852، وقد صممه لتصوير تقلصات العضلات، ‏وجهاز الرسم الكيموجرافي عام 1846 القادر على قياس التغيرات في ضغط الدم.‏
ويركز الباحث الإسباني على دراسة الأشكال الموضوعية للألم، وبخاصة، في أثناء ‏العمليات الجراحية، بما ذلك عمليات جراحة الأسنان والولادة، إذ يأخذ المؤلف بعين ‏الاعتبار مسألة التخدير الكيمائي، لكنه يخبرنا عن “الألم كصديق وفي” سواء لحظة ‏الولادة، أو في مرحلتي الطفولة والشيخوخة، فالألم يخبرنا عن الحقائق غير المريحة ‏في أجسامنا من دون قلق على ندمنا أو شكوانا. والألم يدلنا أيضاً على إصابة ‏عضوية في الجسد، ويقترح بعد تشخيصه العلاج الأول، والألم يجب ألا يفسر من ‏خلال الطريقة التي ينقل بها المريض انفعالاته، بل من خلال الملاحظة التجريبية.‏
وعلى رغم أن الألم، إلى جانب الحمى والالتهابات ومجموعة أخرى من الأعراض ‏ذي قيمة تشخيصية، فإنه يبدو له أيضاً وظيفة علاجية، لقد كان الألم الذي وصفه ‏الكثير مثل طاغية، أو وحش متقلب” أفضل الأطباء وأصل كل العلاجات، فهو ‏‏”أكثر الأطباء يقظة وانتباهاً” وهو “حارس الحياة”. إن علامة المرض الأكثر وضوحاً ‏وأقل راحة جزء من العلاج، كما أن الألم استخدم في الطب لمحاربة الألم بإحساس ‏أكثر شدة مثل الصعقات الكهربائية والكي بالنار. استخدم الأطباء هذه الممارسات ‏في حالات النوبات القلبية والشلل والسكتة الدماغية والصرع والكساح والأورام ‏السرطانية، كما استخدم المقيئ في الحالات المزمنة الشديدة من مثل الالتهاب ‏الرئوي، والكسور، وآلام الصدر، والقشعريرة، وآلام أسفل الظهر، والتهاب الرئتين، ‏وآلام النقرس.‏
وفي القرن الـ20 وصف استخدام المخدر في العمليات الجراحية بالفتح والنصر ‏المبين، واحتفل بالمخدر كما لو أنه “وحي منزل” وتحرر من عبودية الألم، وهذا ما ‏دفع ملكة إنجلترا فيكتوريا على العلاج باستخدام الكلوروفورم لتلد مولودها الرابع، ‏وكان ذلك يوم السابع من أبريل لعام 1853. فطبق مبدأ أبقراط الذي يقضي بأن ‏تخفيف الألم يعود للآلهة، فهو عمل إلهي لتهدئة الألم، ليدرج ذلك في القانون ‏المتعلق بواجبات فن الطب. حدث ذلك مع أن بعض الأطباء دافعوا على نحو علني ‏عن ألم الجراحة، بناءً على الفوائد المفترضة التي تقدم للمرضى، وكان من البغيض ‏إجراء عملية جراحية لشخص فقد حواسه ووعيه، على أساس أن صرخات المريض ‏أثناء العملية هي من توجه المشرط في يد الطبيب بالصورة المناسبة.‏
رابط المقالة:‏
https://www.independentarabia.com/node/599081/‎ثقافة/كتب/الألم-حارس-‏الحياة-والعين-الأكثر-يقظة-وانتباهاً