مواد صحفية

جائزة نيكول تكتشف إليزابيث هوريم

تستمد رواية “الحلبة” قوتها من بساطتها الرائعة. ويبدو أن هيئة المحلفين التي منحتها الجائزة قد وقفت على هذه البساطة.

تصوروا المفاجأة التي تنتاب امرأة تدفع باباً ثقيلاً باحتراس، فينفتح أمامها فجأة. يبدو أن إليزابيث هوريم أصيبت بمثل هذه الدهشة، بعد حصولها على جائزة جورج- نيكول التي تكافئ مخطوطة أول أعمال كاتب ما. وها هي تجد نفسها في إطار الآداب السويسرية، كما يجد المرء نفسه في حضن أسرة زوج مرعبة لم تتعرف بعدُ على أخلاقها، خصوصاً وإنها تتصرف بتحفظ مصطنع ولطيف في آن واحد معاً. الواقع إن إليزابيث هوريم قد غُمرت بالفضل، بعد أن نشرت دار برنار كامبيش رواية “الحلبة” منذ فترة قصيرة. وليس ثمة ما هو أفضل من هذا، إذا كنت تحلم بالنشر لدى هذا الناشر.

بذلك تكون جائزة نيكول قد كشفت النقاب عن سيدة من أصل فرنسي، قادتها دراساتها الشرقية إلى دمشق، ووضعتها بين ذراعي مستعرب سويسري (برن) فتزوجته ورافقته في أسفاره. عملت إليزابيث هوريم لصالح اللجنة الدولية للصليب الأحمرCICR،وعاشت في كل من غزة والقدس. بعدها انتقلت إلى موسكو، فالقاهرة حيث كان يسافر زوجها الذي التحق بالسلك الدبلوماسي.

بعد عودتها إلى برن قبل عامين، أقامت في مبنى يقع في حي Jupitergasse الإسمنتي، الذي لا يحمل من السمات الأولمبية غير الاسم. فقالت لنفسها “أود الرحيل”. شعرت بالرغبة في التخفف من أثقالها، والعودة إلى السفر بما قلَّ من المتاع، ولترى حياتها مرقومة بالبدايات المتجدَدة. بعد أن أدركت حتمية السرعة التي يهرب بها الزمن، قررت إليزابيث هوريم أن الوقت قد أَزِف لتحقيق ما راودها من أحلام قديمة. كان عمرها قد تجاوز الخامسة والثلاثين عندما انكبت على تعلم العزف على البيانو والقراءة. ولا يسعنا، في الوقت الراهن، الحكم على مستوى عزفها. لكن، في المقابل، بتنا نعرف أن لجنة تحكيم جائزة نيكول لم تخطئ حينما أدركت مواهبها الأدبية المتميزة.

تتميز رواية “الحلبة” ببساطة فريدة وبناء واضح، واعتدال مؤثر.إنها كتابة بيضاء وأسلوب بسيط، وقصةٌ كل ما فيها أنها قصة البساطة. فبطلها كانتان كورفال الذي يلتقيه القارئ، منذ بداية القصة حتى آخرها، شخصية ملولة، ومتخيلة ومِضياعة، تبعاً للأحوال. وهو سلوك بدأ مع لويز، عشيقته التي هجرته إلى أخيه ورافقته إلى أمريكا. فأدار ظهره لكل شيء بدءاً بعمله وانتهاء ببلده، وتوجه إلى تاهيس، وهي مدينة اختارها مصادفة لمجرد إيقاع اسمها الغرائبي. بعد إقامته هناك أصبح الفقدان رفيقه: ضيَّع نينا وكلارا والخادمات، وعمله واحترام الآخرين، والصحة، إلى أن فقد نقوده، وجواز سفره، وملابسه، وأخيراً حياته وهو في حالة خدرٍ كبير. إنها حياة الهزيمة بسبب التخلي.وهي تعبير عن انتحار بطيءغامض الدافع وترداد صدىانتحار أمه، الذي جاء ذكره في الصفحات الأولى من الرواية.

ثمة شيء ينغلق على نفسه. فيبدو كانتان الذي يقع “في الغيظ الغرامي الكبير” فيبداية الرواية، وفي فخ الأشرار الصغار في النهاية، سجين حركة يتكرر فيها كل شيء ليصل حتى الإنهاك النهائي. فخ دائري على غرار تلك الحلبة التي تتفرد بها تاهيس.حلبة تبدو على شكل شارع أعلى من مستوى المدينة، تسكنه طبقة متميزة من الأجانب، الذين ينظمون حياتهم الاجتماعية وفقاً لدائرة هذا الشارع الكاملة “…”

ترى ما الذي يدفع كانتان إلى الرغبة في تحطيم الدائرة والهروب من الحلبة، والذهاب للعيش مع السكان المحليين؟ وما الذي يمنعه من السيطرة على حياته؟ ولماذا تبدو له إمكانية ترسيخ خياراته وكأنها تفلت منه (حينما أراد إعلام رب عمله برغبته في ترك العمل، يفاجأ بأنه مفصول من هذا العمل؟) وما هو ثقل هذه الكينونة التي تقوده إلى منفى يخيّم عليه جو أشبه بالمؤامرة، وتتخذ الأشياء فيه شكلاً حاداً لكل ما يبقى غريباً دائماً؟ إن قوة الرواية ناشئة عن هذه الجاذبية المحيرة التي تمسك بالقارئ حتى النهاية من دون حذلقة أدبية.

Michel Audéta(L’Hebdo,1994)

——————

معركة ضد الموت تندلع في الحلبة

التخييل دائرة سحرية تبدو حياتنا فيها تحت ضوء صافٍ له دلالته: التخييل الحقيقي لا يجعل من الحياة وثيقة تشبه الصورة الضوئية، لكنه يخونها ليتمكن من التعبير عنها بشكل أفضل، ويبسّطها ليدرك تعقيداتها من خلال الإيحاء. إنه يحلم بها بدلاً من الحديث عنها.

رواية “الحلبة” لإليزابيث هوريم نوع من حلم اليقظة، تتحول من خلاله الحياة العادية إلى قَدَر. لو تابعنا المِحن التي مر بها كانتان كورفال، وهو ما يمكن تسميتهبالبطل المضاد، الذي ينتقل من مكان إلى آخر ومن ضعف إلى آخر، لا يقل غربة عن العالم من ميرسو (بطل رواية الغريب لكامو) فجعل نفسه مرفوضاً من المدارات الاجتماعية كلها، حيث أساء جداً لعب دوره،أخيراً يمكن القولبأنه نمط يتفق مع روح العصر- أيإنه مضياع “Loser” آخر…

لكن الأمر يختلف حينما نقرأ “الحلبة” قراءة متعمقة لا تقوم على مفهوم الحد الأدنى الدارج اليوم، أو الكتابة التفكيكية. قصة إليزابيث هوريم تتسم بصلابة ومذاق متميزين. شخصيتها تؤثر فينا تأثير الأبطال الضائعين في أفضل روايات سيمنونSimenon. فنشعر أن حياة كانتان كورفال مكتوب لها أن تكون كارثية كحياة والدته التي ألقت بنفسها من أعلى أحد المباني لتقع بين قدمي ابنها. مع ذلك، لا شيء مُقّرراً سلفاً في حياة هذا الرجل الغامض والشفاف في الوقت نفسه، والذي يبدو أن الحياة “تقوده”، ومع هذا تراه يسعى إلى إيجاد مخرج له. بعد أن رفضته عشيقته منذ الصفحات الأولى وبسبب خطيئة ارتكبها أخوه- غادر أوروبا إلى مدينة تاهيس التي تصور بامتياز المأزق الغريب  بين النهر والصحارى في ما يشبه شرق أوسط رمزي مغضوب عليه. لم يبق سوى يوم واحد في عمله الأول ليجد نفسه بعدها في مكتب غامض من قنصلية ما، فُصِل منها قبل أن يتعرض لاعتداء السكان المحليين الذين أمِل أن يجد بينهم مكاناً لأخوة حقيقية. لكن مسار كورفال الميؤوس منه يبث نوعاً من الكآبة التشيخوفية الناعمة، ولا يتوقف القارئ عن الارتعاش على وقع التوتر الداخلي للقصة.

 

الإنسان في الفخ

لئن كانت رواية إليزابيث هوريم تؤثر فينا، وتبعث الاضطراب في نفوسنا، كما تبعث الموسيقى الحزن في أعماقنا، فذلك لأنها تعيد رسم بطلها بجودة إيحائية نادرة. فالرواية التي تقع على مسافة متساوية بين الدقة الواقعية والإيحاء الحلمي، تضع القارئ في الفخ نفسه الذي يتخبط فيه البطل في ما يشبه الطريق المسدودة التي هي طريق الحياة نفسها، في وسط هذه الحلبة المحاصرة بالساعات الجدارية التي لا نهاية لها، وحلقة الأغنياء المحاطة بضواحمن ضواحي العالم الثالث، حلقة حياة تغلق نفسها على العزلة.

قبل خمسة وعشرين عاماً من هذا التاريخ، كشفت جائزة جورج- نيكول عن موهبة في ريعان الشباب تمثلت بآن- ليز غروبيتي.أما صوت إليزابيث هوريم فقد احتاج إلى زمنٍ أطول لترسيخ نفسه،فكان أكثر نضجاًوثقة حين ظهوره: لا شك أن “الحلبة” رواية كاملة تم الكشف عنها للجمهور في الوقت المناسب، وما يزال جوها وسحرها يشغلنا على الرغم من اختفاء شخصيتها منذ زمن طويل، وما تزال تبعث في نهر الحياة حركة مجهولة.

Jean-Louis Kuffer

24Heures. 1994

—————————-

الحياة على طريقة تاهيس

تلكم رواية جميلة ستحتفظ بها ذاكرتكم لفترة طويلة. فقد برهنت مؤلفتها إليزابيث هوريم،بكتابتها الفعالة والمتناغمة،عن نضج يثير الدهشة. إنها قصة بسيطة تقع في 180 صفحة، تدور أحداثها في جو فتّان.

هي قصة ضياع شاب أوروبي في تاهيس، مدينة الرمال. ضياع يبدأ بالحلبة التي تشكل الشارع الرئيس المرتفع والمحيط بالمدينة المحلية، حتى المركز الذي لا يرتاده الأجانب أبداً. وشيئاً فشيئاً يقع هذا الأوروبي في شرك انبهارٍ سلبي نجحت إليزابيث هوريم في تجسيده عبر تشريحه. يخرج كانتان من هذه الدائرة الخارجية والسطحية إلى الأحياء الداخلية، إلى المدينة (الحياة) الحقيقية، ربما بحثاً عن حقيقته.

لقد استحقت إليزابيث هوريم عن هذه الرواية الأولى جائزة جورج- نيكول التي كشفت عنها أفضل الأقلام السويسرية، واعترفت بأصالتها. وسننتظر ما يصدر لها في المستقبل بفارغ الصبر.

Jacques Poget

L’illustré, 1994

—————–

دوائر في مياه الحتمية

ينظر كانتان كورفال، بطل رواية الحلبة، إلى الحياة كأنها سلسلة من الأحداث غير المفهومة، فينزلق نحو عدم من دون أمواج أو ضجيج كبير. رواية قاسية وبسيطة استحقت إليزابيثهوريم عليها جائزة نيكول.

بعد روايتها الموسومة “الحلبة”،أصبحت إليزابيث هوريم الفرنسية المولودة في عام 1955، سويسرية بزواجها من سويسري، ونالت جائزة جورج- نيكول علم 1994. وقد استحقت هذه الجائزة عن رواية قصيرة تتسم بوضوح مسارها وكتابتها. إنها قصة التخلي عن الذات والفقدان. بعد صدمة غرامية، يغادر كانتان كورفال البالغ من العمر سبعة وثلاثين عاماً أوروبا إلى مدينة غير معروفة ينتظره فيها عمل طبيعته غير واضحة تماماً. وما إن يصل تاهيس حتى يقدم استقالته من الشركة التي كان عليها تعزيز الكادر الأوروبي فيها، لينتقل إلى وظيفة ثانوية في  إحدى القنصليات. لكنه لم يهتم بعمله هذا على الإطلاق، كما لم يهتم بهذه الحاضرة الواسعة المغبّرة التي هي تاهيس، فبقيت غريبة عنه كغربتهبين الدبلوماسيين الذي كان يعيش على هامشهم.

 

صرحٌ بأسلوب العبث

استقر كورفال في شقة تقع في مركز المدينة، أي الحلبة– شارع دائري طوله ثلاثة عشر كيلومتراً  اعتادت الجاليات الأجنبية على السكن فيه – لكنه لم يعاشر سوى نينا براسكين، التي اختارت بدورها، أن تسكن خارج الحلبة، في آخر فناء بيت قديم من أحد الأحياء الشعبية تفوح منه الروائح الكريهة. باستثناء هذه المرأة، يبدو أن عدم الفهم، إن لم نقل الاحتقار قد حكَم علاقة كانتان بالآخرين: فقد أخلّت مدبرات المنازل (الخادمات) بالتزاماتهن تجاهه، وتجاهله زملاؤه، وازدراه السكان المحليون ازدراء المتغطرسين. وزاد على ذلك كله الإهانة التي وجهها إليه القنصل بعد تسريحه من العمل، تزامناً مع اللحظة التي كان يفكر فيها بالاستقالة.

سارت الأمور كلها كما لو أن كانتان لا يتحكم بوجوده، وقَبِل الهزيمة مسبقاً. فراحَ يرى الحياة أشبه بسلسلة من الأحداث غير المفهومة، كذلك المثلث الأبيض لشاشة السينما المنصوبة في الهواء الطلق أمام البحر: “عجز عن تخيل أن ثمة فيلماً عُرض على تلك الشاشة أبداً. رأى فيها، بالأحرى، صرحاً غريباً شُيّد فوق هذا الشاطئ ليمثل “العبث” أو “الغياب”- أو شيئاً آخر من هذا القبيل.

الهروب العابر، والانتقال العبثي لم يعيقا انزلاقه نحو العدم: غيابهمدة أسبوع في أزغا، حيث اكتشف مناظر عظيمة برفقة كلارا التي مثلت اللحظة السعيدة الوحيدة في هذه القصة، لكنها بقيت لحظة بلا مستقبل. على الرغم من نصائح زميله بول غودان، أصرَّ كانتان على مغادرة الحلبة إلى حي يسكنه أهل البلاد، واعتاد على قضاء فترات بعد الظهر في مقهى لا يعيره رواده أي انتباه. حاول أن يكسب صداقة شاب عاطل عن العمل من خلال إعطائه بعض الدروس في اللغة الإنجليزية، لكن الأمر قاده إلى الوقوع في شرك تعرض فيه لضرب مبرح، وسرقة ما يملك من قبلهذا الشاب وعصابته في حالة من الانفجار الذي لا مبرر له، ويتناقض مع وحدة الإيقاع السردي الذي لم يحدث فيه أي شيء تقريباً، بل وقع ما لا تحمد عقباه.

تنازل كانتان عن فكرة الوشاية بذلك الشاب، كما رفض العون الذي اقترحه غودان عليه. ولكي يشغل انتظاره قبل الرحيل إلى أوروبا، ذهب للتجديف على قارب في نهر أوفير حيث كان مصيره بالانتظار.

المياه القاتلة

تكمن قوة رواية الحلبة في أسلوبها المتقشف ونبرتها القريبة من الملاحظة، إذ لا ترفع المؤلفة صوتهاولا تعبر عن دهشتها، مكتفيةً بتسجيل ما يحدث لبطلها. يستند بناء القصة، الذي يجمع الفاعلية بالإيحاء، إلى نموذج الدائرة- وهي هنا لا تمثل الاكتمال إنما الانعزال والتكرار والحتمية. كما يستند إلى شبكة كثيفة جداً من الصور التي ترتبط بالماء (المطر، النهر، البحر)، وهو عنصر أمومي نفهم منه، في النهاية، ومن خلال التلميحات المتواترة إلى شخصيات تغرق، الروابط الغامضة والقوية التي تربطه بأم اختفت باكراً جداً. وهذا كله جاءنا تلميحاً لا تصريحاً وبحساسية وبساطة.

Isabelle Martin

Journal de Genève, 1994

——————————————————————————–

الحلبة، أو الصراع الأخير مع الموت

انطلاقة رائعة للكاتبة الشابة من أصل فرنسي تعيش في برن

الحلبة رواية التصدعات. تبدأ القصة بهجر لويز لعشيقها كانتان كورفال. فيقرر السفر إلى تاهيس، وهي عاصمة شرقية غامضة وجد فيها عملاً. وفيها تمر الأيام هادئة بل شديدة الهدوء. وهو ما بعث الضجر في نفس كانتان من دون أن ينتبه لذلك. وبوصفه موظفاً في قنصلية، راح يقضي وقته في وضع التأشيرات على جوازات السفر. بدأ حب الحياة يهرب منه تدريجياً في غرفة انتظار الموت التي تمثلها تاهيس. في المرحلة الأولى من إقامته، اتخذ له سكناً في الحلبة”وهي شارع عريض يحيط بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم”. وقد جرت العادة أن يسكن الأجانب كلهم فيها. صار يدور حول نفسه في تاهيس كما تدور حياته. الحلبة مسرح يخوض فيه معركته الأخيرة قبل أن يسلك الدرب الذي يفرض نفسه.

رواية إليزابيث هوريم تستلهم الوجودية بطريقة أكيدة غير مباشرة. وفي أطرافها مفهوما العبث والاستلاب، فتقترب بهذا من رواية الغريب لألبير كامو. كانتان يتحول تدريجياً إلى إنسان غريب عن نفسه، وعن الآخرين. فلا أصدقاء حقيقيين له، بل مجرد معارف. صحيح أنه غامر مرة، لكنها مغامرة خلَت من أي نوع من الانفعال. حتى إنه لا يبحث عن معنى لوجوده، فكل ما يشغله هو أن يعيش. حاول أن يجد مهرباً من هذه الرتابة بانتقاله من الحلبةوالاستقرار في أحد بيوت تاهيس القذرة. فحكم على نفسه بعزلة أكبر. بعد أن كان تواصله مع سكان الحلبة من الغربيين وهماً وتافهاً، تبين له أن عدم القدرة على التواصل مع السكان المحليين أكثر بعداً، لجهله لغتهم وثقافتهم. هنا، تقدم لنا رواية إليزابيث هوريم مستوى جديداً للقراءة، هو مستوى عدم الفهم المتبادل الذي يحكم الغرب بالشرق. آخر انتفاضة يقوم بها كانتان تتمثل في الاستقالة من العمل والعودة إلى أوروبا، لكنه يفشل في الحالتين. فقد أعفاه القنصل من عمله قبل أن يتمكن من إخباره بقراره. قبل بضع أيام من سفره اعتدَت عصابة من الزعران على كانتان. وهنا بدأ يعيش اللحظة القصوى من استلابه (اغترابه). بينما كان بطل الرواية (ربما تكون عبارة البطل المضاد أنسب هنا) يتعرض لضرب مبرّح ،سمع عدة صرخاتعدّها غير لائقة:

“هل هناك ثمة من يصرخ على هذا النحو؟” لم يفهم، إلا بعد وقت غير محدود أن “من كان يصرخ ليس سواه”.

بعد أن تعافى كانتان، أزاح الستارة عن وجوده. وحينما أصبح نوتّي موته، استأجر زورقاً تركه يهيم فوق مياه نهر أوفير، الذي يعبر مدينة تاهيس. فتكفلت السدود بسحق الهيكل الفارغ الذي صار إليه وجود كانتان.

Femmes Suisses.1994

—————————————-

مدينة خيالية

تتميز رواية إليزابيث هوريم بخطابية بلاغية رهيبة. فما إن يكمل القارئ عشرين الصفحة الأولى حتى يشعر أنه في بيته في تاهيس، المدينة الخيالية التي تشكل الإطار الذي تدور فيه أحداث رواية “الحلبة“.

توجت هذه الرواية الأولى بثلاث جوائز، مع أنها لا تقدم رؤية شاملة (بانورامية) على طريقة بلزاك: فلئن فرضت هذه المدينة نفسها عليّ بوضوح لا نقاش فيه فذلك لأن التفاصيل التي لا أعيرها حتى الآن أي اهتمام، لكنها تتراكم فوق بعضها، وتنتهي إلى تكوين مواطنيّة سامية لي، فأتحول مع استمرار الرواية إلى واحدة من سكان تاهيس، من دون وعي مني.

الحقيقة أن من ساعدني في ذلك هو كانتان كورفال، الشخصية الرئيسة في الرواية. فقد غادر كورفال أوروبا لتولي عمل في تاهيس، فنحطّ فيها رحالنا معه، ونكتشف المدينة بعينيه. لكن كانتان كورفال لا يرى سوى تفاصيل. وهو قصر نظر ذو دلالة (إذ يضع المدينة بين أيدينا)، لكنها نظرة تفكيكية أيضاً: إذ إن توقفه على التفاصيل رفضٌ لإعطاء اي معنى للعالم والكائنات، أو لا يعطيها سوى معنى بشع. هاكم على سبيل المثال كيف تختصر نظرة كانتان إلى إحدى السكرتيرات العاملات في القنصلية فلا يبقى منها سوى: شعرها الأصهب المربوط (شينيون)، وذراعيها الضخمتين (بلحمها الرخو واللبني)، واسمها “الذي يثير لفظه القرف في النفس!” كانتان لا يعطي للعالم سوى أهمية محددة ومحدودة- والعكس صحيح- كل ما حوله يتلاشى: الصديقة والعشيقة تغادران المدينة؛ كأنها سئمت من أن تُعطى لبطل لا يستخدمها إلا القليل.

يأتي كانتان كورفال على العلاقات البعيدة المرتبكة بحياته اليومية من خلال ومضات سريعة. فترى تفصيلاً معيناً يستيقظ في نفسه “ما يشبه سحابة افتراضية من نار فوق أحجار كريمة” (كما يقول مالارميه). وتتضخم في حالة الحلم. هنا، التفصيل يشبه المغناطيس الذي يجذب إليه شيئاً فشيئاً كل ما حوله. هذا السخاء التشاركيّ الذي لا يرضى كانتان أن يتميز به العالم الواقعي، تراه في المقابل يستخدمه في حياته التخيلية. وهو أمر لا يخلو من سوء نية أو مخاطرة.

ها هو، على سبيل المثال، قابع في سريره وقد أقعدته الحمّى، يركز نظره على “الضوء المتحرك، والانعكاس المنكسر في النافذة” الصادر عن لوحة إعلانية يتقاذفها الهواء. ومن باب تزجية الوقت، يقرر كانتان أن يرى في هذا الانعكاس “ظلاً راعشاً لأوراق أشجار الكستناء” يذكّر على الفور ببيئة بافارية- نُزُل في ساحة مبلطة “تزين جدرانه نحاسيات براقة ورؤوس وعول وخنازير برية”- قبل أن ينتبه، بعد أن تتضح حالة الحلم، أن هذه الشامة، قرب شفة النادل “تبعث على النفور من دون سبب واضح”، كما يبعثها رأس الوعل. لو فكر المرء ملياً في ذلك: “كيف للإنسان أن يحب الصيد؟” . هنا إليزابيث هوريم لا تترك الحبل لشخصيتهاعلى غاربه ، فتشير أحياناً بتهكم إلى التعلق الناحب بالأم الكامنخلف تحفظها البعيد، كدهشتها غير الراضية عن مآلات حالة الحلم لديها، فترى كانتان ينهض كعجوز يتحسر علانية على نفسه، ويشرب قليلاً من الحليب بالعسل، ويعود إلى غرفته “بخطى واهنة، ويدندن على وقع طقطقة بابوجه نغمتين: فليب، فلاب.”

يغوص عالم كانتان في تفاصيل مشتتة يفشل الحلم في إعادة تشكيلها. لكن التجربة التي يعيشها قارئ رواية “الحلبة” معاكسة تماماً: فعند نهاية الكتاب يخلص إلى أن الكاتب ممسك تماماً بتلابيب القصّ. وأظن أن ما فيه من تناغم جاء نتيجة هندسة سردية تدينبأناقتها الكبرى إلى بساطتها المدروسة بعناية. تنقسم رواية “الحلبة” إلى قسمين متساويين من حيث عدد الصفحات (88 صفحة لكل قسم) ويتناغم القسمان على نحو لولبي. والكتاب في المحصلة، “يتقدم عابراً نفسه” (كما يقول نيكولا بوفييه عن السفر). شخصياته، ومشاهده، وحالاتهيعكس بعضها بعضاً كما في المرآة سواء في القسم الأول أو الثاني. والإشارات المتباعدة ينعقد بعضها مع بعض لتقدم لنا بعداً رمزياً من دون أن تفرضه علينا. لكننا نرى في الدوائر اللولبية موضوعاً  يتكرر بإلحاح: هو الفقدان الأساسي الذي يكرر ما فيه صعوبةَ الموت. “ذكرى قاسية ومعذبة (…) لجسد ممدد فوق الرصيف، يغطيه معطف وردي.” كان كانتان في السابعة من عمره، حينما رمت والدته بنفسها من الطابق الخامس”.

الحلبة” رواية رومانتيكية. لكن كانتان كورفال، مثله مثل فريدريك مورو في رواية “التربية العاطفية” [لفلوبير]، شديد الضعف، ومقتّر في موقفه إزاء اليأس ليتحمل كل الثقل المحزن الذي يلهب موضوع الاحتجاج عند شاتوبريان. زد على هذا أن رومانتيكية “الحلبة” نقدية، وفي حداد على نفسها، انتُزعت منها طاقتها الكئيبة. هل هذا يعني أننا إزاء إثبات حالة معينة، أم احتجاج عليها؟ يبدو لي أننا إزاء الحالتين معاً تبعاً لعبارة إشكالية قالها إيف فيلان، سأعدلها قليلاً، لتكون لي بمثابة الخاتمة: “الرومانتيكية مستحيلة، لكن لابد منها، لابد منها.”

Jean Kaemper

Domaine Public, 1995