مواد صحفية

«الواقعية السحرية وتحولات القَص»: قراءة في القَص المُغاير

اشترطت هذه القراءة من قبل الباحث جاسم خلف إلياس طرح تساؤلات تتعلق بأسباب الكتابة، والتركيز على القلق الوجودي الذي يحشر القاص ما بين الشك واليقين إزاء الكون، والحيرة التي تفتك بالذات القاصة وتشظيها، ومن ثم تلملم أشلاءها في الخلق النصي، لتعبّر عن انكساراتها وانتصاراتها ومسراتها وأوجاعها، ولأجل قراءة مسار تحولات القص في التجربة العراقية ضمن مسارها التاريخي والفني، آثر إلياس في كتابه الموسوم «الواقعية السحرية وتحولات القص» الصادر عن دار نينوى في دمشق 2022، أن يبدأ بمراجعة نقدية سريعة لأبرز ملامح الكتابات القصصية، ابتدأ بما يحسب على البنية التقليدية في ثلاثينيات القرن الماضي، مرورا بفضاء الحساسية الحداثية الأولى في الخمسينيات، وصولا إلى حساسية الحداثية الثانية في الستينيات وما رافقها من تجريب وإزاحات وتحولات، وانتهاء بحساسية الحداثية الثالثة في التسعينيات، وكذلك في العقد الأول من القرن الحالي، ولأن عملية الإحاطة بمعظم النتاج القصصي العراقي، الذي شهد تحولات في بنية القص تبدو مسألة غير ممكنة، ارتأى الباحث خيار الانتقاء، اعتمادا على سببين، الأول يعود لتوجهات المؤلف ورؤيته وتذوقه المغاير في القراءات، لاسيما قراءة القص المختلف. والسبب الثاني يرجع لاهتمامه بالكشف عن فاعلية المنتج القصصي في مدينة الموصل، لأن هذا المنتج من وجهة نظره، ظل بعيدا عن تناول النقاد.

المصطلح بتفرعاته

الفصل الأول يتناول مصطلح الواقعية بكل تفرعاتها: الواقعية التقليدية، الواقعية الاشتراكية، الواقعية النقدية، الواقعية الجديدة، الواقعية الشعرية، الواقعية السحرية، كما يتابع الأسباب التي أدت إلى ظهورها لدى كتاب القص العربي منها: عوامل داخلية تتمثل بالرغبة في التجريب، والتأثر بالتجارب العالمية، كما أصبحت طرائقها لتمرير الانتقادات الاجتماعية والسياسية والدينية، أما عن آليات اشتغالها فيشير إلى ما حددته ماجدة هاشم من آليات ثلاث: تداخل الواقعي بالفنتازي، وتداخل الواقعي بالماورائي، وتغريب الواقع.

مسارات التحول

تناول الفصل الثاني تحولات القص، والتعالق الاجتماعي النصي، ومسارات التحول في القصة القصيرة، والقص والمقاربات النقدية. ويرى الباحث أن هناك بواعث عديدة ساهمت في إحداث التحولات في القص، منها خارجية تتعلق بالواقع وما رافقه من تغيرات، وداخلية تتعلق بالذات القاصة. وتوافقا مع الدراسات النقدية يشير إلى أن العلاقة بين بنى الأنواع الأدبية وتحولاتها والبنى الاجتماعية ومتغيراتها، علاقة ترابطية، أي لا وجود لشكل أدبي بمعزل عن تأثير بيئته الاجتماعية، ثم يعرج على مسارات التحول مستعرضا الأجيال التي ساهمت في عملية التحديث، ابتداء بجيل البدايات مع محمود أحمد السيد وذنون أيوب ثم جيل الخمسينيات فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري وغانم الدباغ وآخرين، ومن بعدهم جيل الستينيات الذي أحدث انعطافا في مسار الحداثة بكل ما فيه من تجريبية وابتكار وتمرد أمثال: محمد خضير، عبد الرحمن مجيد الربيعي، جمعة اللامي. بعدها يرصد الكتاب تمثلات النتاج القصصي في الجيل السبعيني والثمانيني، الذي شهد عودة للواقعية، لينتهي عند الجيل التسعيني الذي انعكست عليه الانعطافات الخطرة التي ألمَّت بالمجتمع العراقي، فبدأ القاص يقترب كثيرا من الواقعية، حيث أخذ الوعي يسعى إلى تجسير المسافة بين قسوة المتغيرات الحياتية والتغيرات العالمية في الكتابة.

نماذج تطبيقية

ولكي يكتمل جهد الباحث من الناحية الأكاديمية فقد اختار نماذج قصصية من مدينة الموصل، باعتبارها تمثل جزءا من المشهد القصصي العراقي، ولأن النقد الأدبي العراقي قد أغفلها. والنصوص التي اختارها تمثل تنوعا في الرؤية والتشكيل من وجهة نظره، ومن هنا جاء الفصل الثالث بمقاربة إجرائية اعتمادا على مجموعة «جنون وما أشبه» للقاص نجمان ياسين، ليخلص في قراءته إلى أنها جاءت تعرية للواقع المؤثث بالمفارقات والمتناقضات والأزمات المتكررة والخيبات المتعاقبة، وهذا ما حدا بالقاص اللجوء إلى السخرية، بوصفها تقانة من تقانات القص.
الفصل الرابع تناول التخليق السحري والمتخيل الأسطوري عند القاص نزار عبد الستار في مجموعته القصصية «رائحة السينما» ويرى الباحث أن عبد الستار يسعى في نصوصه إلى توظيف كشوفات قص ما بعد الحداثة، التي تستند إلى الأسطورة والموروث بأشكاله المتعددة لإسقاطه على الواقع المعاصر، فيمزج الفنتازيا بالواقع في تواشج يصعب على القارئ أن يفك اشتباكه، لأن ذلك سيؤدي إلى هدم البناء القصصي، ويخلص المؤلف إلى أن عبد الستار استطاع أن يحشد مجموعة «رائحة السينما» بدلالات عميقة وسخرية لاذعة، عبر التناص الأسطوري والشعبي في لغة سحرية تتعالى على الأنساق والمعايير القارة، وينحاز لنضجها اجتماعيا وثقافيا.

التخليق الفنتازي

ولتبيان أثر سحر المحكي في تحولات القص، يتوقف إلياس في الفصل الخامس عند مجموعتي «خربشات سعيد بن هدالج» و»لازورد أحمر» للقاص فارس الغلب، ويرى أن السرد القصصي سمة مميزة في تجربة الغلب، وبنية القص عنده ليست مجموعة عناصر وتقانات شكلية تقدم حكاية تحاكي الواقع فحسب، بل هي مجمل رؤيته إلى العالم، كما أن بنية السخرية مهيمنة في أحداث وشخصيات قصصه، ولاسيما سخريته من الممارسات والإفرازات اللاأخلاقية لحضارة همها القتل والهيمنة، لذا يظل قارئ قصص الغلب يعيش جدلية النقاء /التلوث.
وفي سعيه لتقصي أثر العجائبي والغرائبي في تحولات القص عمد إلياس إلى الاشتغال النقدي على مجموعة «جذامير» للقاص قيس عمر، ووجد في مكوناتها نزعة التخليق الفنتازي، بوصفه تقنية مكملة وداعمة للغموض، كما تنهض هذه المجموعة على دائرة النزوع الشعري واتكاء القاص على لغة شعرية طافحة بالإشارات والرموز، التي فعّلت التكثيف الدلالي، فضلا عن المفارقات التي تقود إلى خلق التوازن بين الواقع النصي والواقع المعيش.

خاصية فنتازية

يوضح المؤلف أن المجاميع القصصية: «رائحة السينما، جذامير، خربشات بن هدالج ، لازورد أحمر، جنون وما أشبه» جاء اختياره لها باعتبارها نماذج تمثل قص ما بعد الحداثة، تهيمن عليها الواقعية السحرية بأسلوب مكثف، فلا تخلو قصة من القصص التي احتوتها المجموعات الخمس من آليات اشتغال الواقعية السحرية، أو مظهر من مظاهرها، كما توقف عن عدد من القصص لكتاب آخرين بدت فيها الواقعية السحرية مثل قصة «اسطرلافوبيا» للقاص ثامر معيوف من مجموعته «سكان الهلاك»، ويصل المؤلف إلى أن فنتازيا ثامر معيوف لا تعنى بالحديث عن الآلهة والجنيات والأقزام والشاذين والسحرة والحيوانات التي تتحدث بلغة البشر، مما نجده في أدب الفنتازيا، بل كل الشخوص التي فيها والأحداث والأماكن واقعية ومنطقية، غير أن الواقع المروي، ذو خاصية فنتازية.
تكتمل القراءة النقدية في هذا الإصدار بحثا عن التحولات في القص ومكامن اشتغالاتها التقنية الجديدة بتناول نماذج قصصية كتبها قصاصون مثل هيثم بردى، إبراهيم سليمان نادر، سالم صالح سلطان، يعرب السالم، أنور عبد العزيز، عصام حميد العبيدي.

رابط المادة:

www.alquds.co.uk/الواقعية-السحرية-وتحولات-القَص-قرا/