مواد صحفية

الشاعرة والإعلامية التونسية هاجر بن حسين: الشعر هو أحد الاحتمالات لتجاوز هذا العالم الذي بات لا يطاق

كتب الصحفي والناقد عبدالله الحيمر في القدس العربي:

 

أمام شموخ مدن قطاع غزة الأبية، واستبسالها في كتابة ملحمة طوفان الأقصى، ليأخذ الإنسان الفلسطيني مكانه في المدن تحت الاحتلال كأسلوب للحياة والكرامة ومكاناً لممارسة الحرية والمقاومة. يأتي ديوان «كما المدن» للشاعرة والاعلامية التونسية هاجر بن حسين (باحثة في الأدب العربي، إعلامية وكاتبة في صحف ومجلات عربية وإيطالية) ليحفر عميقاً في معنى المدن فينا، كذاكرة وفضاء وكجسد للحياة الفكرية والاجتماعية.

لشاعرة بعيون طفلة أبت أن تكبر في عالم سرابي. كان لنا معها هذا الحوار عن ديوانها «كما المدن» الصادر حديثاً عن دار نينوى.

 

□ ما جدوى الشعر فى حياتك؟ إلى أين مكان أوصلك، كيف تتعرفين الشعر اليوم خارج المكان؟
■ الشعر هو أحد الاحتمالات لتجاوز هذا العالم الذي بات لا يطاق، الشعر هو وسيلتي لأشارك عصافير الصباح معزوفة الوجود الشعر هو الذي يتيح لي فرصة اختبار كينونتي في زمن التلاشي. أوصلني الى نقطة البدء حين حفظت الأبجدية في الكتاب دون وعي، أعادني لأقيم في الحروف إقامة الغابرين في الدلالة. الشعر حالة من تواطؤ الحواس في لحظة انفجار أنا أسميها سفر التكوين حين تصطدم الذات بالموضوع وأشدها حين تستعر المعركة في الذات نفسها.

 

□ الأمكنة والعزلة، والألم، والخوف، والخيبة، والذهول. ركن أساسي في ديوانك «كما المدن» كيف تقيمين هذه الإقامة الدائمة في هذه المدرات؟
■ العزلة والألم والخوف والخيبة والذهول، هي أمكنة أيضاً أتنقل بينها كلما استحالت الإجابات والاتجاهات، أشعر أنني رهينة كل هذه المحابس أحاول أن أعيها، ولا أخفيك أني استوفيت معنى كل الاحاسيس حين اختبرتها جميعاً أن تتذوق كل صنوف الأضداد، وأن تمتلك لها المكاييل والصواع فتعرف موازينها ومقدار مراوحتك لها.

 

□ كيف وجدت اللغة تمردها بشعرك؟… باعتراض أو رفض؟
■ كلما فاق الوجع الاحتمال، تدفق ماء الشعر رقراقاً وانساب بعد حالة من حالات الانسلاخ من جلدك، أو هكذا أتوهم. وكأن اللغة تنتشلني من عطب أن أكون جليداً أو أتصحر.

 

□ هل ممكن أن نعتبرك شاعرة حاملة لصليب الآخرين شعرياً؟
■ أنا لا أسعى إلى تصنيفات وتسميات متواضع عليها قد تمنح تجملاً أو استحقاقاً، وقد لا أكون لا ذاك ولا هذا. إنما بيني وبين نفسي، أنا روح قلقة أحمل عناقيد من عنب وجمر. أعيش بين مسارب الجمال والقبح، وقدري أن أصنع لغة التماهي والانزياح لأكون لنفسي قبل أن أكون للآخر.

 

□ يقول أنسي الحاج: «لولا الشعر لأصبحت جميع اللغات مدافن للشعوب» كيف تفكين خيوط الظل الأعمى لهذه المقولة؟
■ مدهشة عبارة أنسي الحاج، قد أفهمها بتمثلي الشعر بالروح و اللغة بالجسد، أما يكون الجسد باهتاً عاطلاً وإما حياً يرقص أو يبكي. الشعر مكمن الحس ومأمنه واللغة شرفته التي يطل منها.

 

□ فرن الحياة في مدينتك «تونس»،كيف نضجت فيه حداثتك الشعرية بين قيم الكتابة وقيم المجتمع؟
■ كما المدن جاء في بيت من قصيدة مستقلة قلت فيها:
«كما المدن العظيمة التي خانتها القلاع»
فكان عنوان الديوان تشبيها والمشبه به في صلب الديوان. نعم أنا ابنة المدينة العتيقة بتونس مولداً ونشأة. تنفست أزقتها ومدارسها ومزاراتها ومساجدها وأسواقها العتيقة وريح حوافر الخيل من الفينيقيين الي قدوم عقبة بن نافع. حتى أضحيت مدينة بكل تلك الشواهد. في لكن القلاع يا صديقي خائنة والجدران لا تقيك الغزاة ولا تلهمك الحرية، فاخترت الجبل مرتعاً لوحدتي وللغتي ولغنائي و لأكون ندّاً للكون وجوداً ومعنى.

 

□ يقو ل. بروتون: «إن التخيل أولاً افتراضي، ينزع دائماً إلى أن يكون واقعاً وحقيقة» كيف حملت في هرم شعرك التكتم والإبهام، بالبوح والمكاشفة، بأسئلة وجودية مرهقة عن الموت والعزلة والخلود والزمن والله؟
■ أنا أعيش الاسئلة الكبرى، منذ أن وعيت على سؤال الكينونة. بالمناسبة (الأسئلة الكبرى) عنوان لمشروع برنامج أفكر فيه/ سؤال الذاتية والوجود لم يكن مباغتاً أو حديث نشأة، كان في فمي وأنا طفلة أحاور والدي الشيخ في معنى الوجود والعدم القبلية والبعدية وحجة الكون ومركزه الله أم الانسان. كانت أسئلتي لأحدد وجهتي لأن اعتبرت أن الإقامة في هامش الأجوبة الطرية نوع من الهزيمة والتخلي. كان لا بد أن أحمل خوذتي وقدري معاً وأدخل المعركة من بابها الكبير، في الاشتباك حقيقة مع كل السائد والمتحول العابر والمقيم الغربي والشرقي. المفاهيم الكبرى انتصر أو أهزم ما عادت تعنيني، المألات الأصل أن أخرج عن القراءات الأرثوذكسية، وحالة الارتكاس وأصنع لنفسي قراءتي تجربتي كينونتي نهايتي.

 

□ كيف كان حديث «الأب» شعرياً في ديوانك «كما المدن». من صعوبة سبر أغوار كينونة الأبوة في أفقها الانساني والاجتماعي، وما التحديات التي واجهتك خلال هذه المغامرة الشعرية؟
■ أصعب الأسئلة أن تسألني عن الشيخ الرئيس تيمناً بابن سينا هكذا كنت أراه، أبي هذا الرجل الذي أطرق الرغيف في يده حياء. جعل مني امرأة كزيتونة لا شرقية ولا غربية، لكنه تركني في غابة من الرياح ورحل دون أن يعلمني أو لعله نسي كيف أعوي مع الذئاب! ومن أعاجيب القدر أنني أعيش حقيقة في وادي الذئاب والشوك لكنني لم أجد أرق منهما.

 

□ أمام ملحمة طوفان الاقصى، كيف ترين شعرياً مقاومة الشعب الفلسطيني بغزة لنكسة الصهيونية في المكان والزمان؟
■ الشعر وفلسطين متلازمتان حتميتان، أن تقرض الشعر في مشهد إبادة شعب أعزل هو معنى يفوق اعتذار الفن لقساوة العالم حد عبارة «ادرنو». إنها انتاج كتابة البندقية والأرض واختبار حقيقي لأبجدية القيم والمفاهيم عند الشعراء، وفرز بيّن بين الكتابة المخملية والكتابة على خطوط النار ومن مسافة الصفر.

 

□ ذاكرة المدن، بأزقتها وحوادثها وحكاياتها وعطرها ورائحة التراب فيها. بنظرك هل هي سراب أم تجسيد للزمن الضائع فينا؟
■ تقصد رائحة الإسفلت معراج سالكي الملح والقلم، المدينة عندي بقع من طفولة عالقة بين الجدران، ومقاعد الدرس، وشذى أشجار الشوارع في الخريف ورائحة الملوخية تنبعث من مطبخ جارتنا وصياح الباعة وآذان صلاة الظهر، وقط يدخل راسه في قفص السماك، ورجل ينتظر ابنته تحت عمود الكهرباء. كل هذا قطع منك وأشلاء زمنك فلتت منك دون أن تنتبه أو تعد له العدة. وحتى تلتقط ذاك الطفل فيك تعود الى تلك الأمكنة لترسم فراشة على قلبك. سافرت كثيراً وأقمت في مدن كثيرة، واكتشفت أنني أحنّ لها جميعاً لأنني باختصار أفتش عنّي فيها. نحن نسكن المدن لأنها تسكننا بقوة الذكرى وقوة وهج دبيب الحياة فيها. بقي سؤال آخر ماذا لو كانت هذه المدن خائنة وهاجرة، كيف يمكن أن تصالحها؟

 

رابط المادة:

alquds.co.uk/الشاعرة-والإعلامية-التونسية-هاجر-بن-ح/