مواد صحفية

الحـداثة و«قـانون حـراسة الشهوة»

فاتح كلثوم
«أحسن الكلام ما كان صفو العقل من ناحية المعنى، وعفو الطبع من جهة التأليف،
فيجتمع صواب المراد وحلاوة الإيراد..» والقول لـ «أبي يوسف يعقوب بن سحاق الكندي» الّذي عاصر اضطرابات القرن الثّالث الهجري –التّاسع الميلادي، والّتي شملت جميع مقومات الدّولة العباسية (الجغرافية، الفكرية، الاجتماعية، السياسية) ولكن تلك المرحلة الزمنية، استطاعت –بمثقفيها- أن تكون مسرحاً لإنتاج فكر وأدب بديل، تجاوز كل التّابوهات المفروضة –آنذاك- والمحروسة بقانون السّيوف الأميرية –الوصائية الّتي ترى في كلّ تجاوز لشهوتها الدّينية والدّنيوية خطراً يهدد وجودها، قبل أن يهدد الشّرع ورجاله الأوفياء للثابت، وسط تصفيق «عوام» يرون أنّ ذاك الثّابت وعباءة ولي الأمر، هما الجنة الحقيقية للاستقرار في الدّنيا والآخرة، وكان «الكندي» هو البطل الحقيقي على خشبة –ذاك- المسرح والممثل لأول حركة فلسفية مستقلة، بعد أن انفصلت عن الحركة الكلامية المعتزلية، لتشق طريقاً جديداً «حداثوياً» في الفكر العربي، ولتبلغ مع «ابن رشد» الذّروة في تقديم العقل على النّقل، واختيار الأديب والصحفي السّوري «خليل صويلح» هذا القول ليكون مقدمة كتابه «قانون حراسة الشّهوة» /الصادر عن دار نينوى–دمشق -2015 / لم يكن اختياراً اعتباطياً، ولم يحضره صاحب «جنة البرابرة» للزينة أو للمباهاة –كما يفعل الكثير من أدبائنا الحداثويين!!- بل جاء به مذيلاً باسم قائله، ليقول من خلاله ما أشبه الأمس باليوم، معتمداً على تفاصيل عاشها أو عرفها عن قرب، أو التقى بها وهو يتجول في متاهة المكتبة، وخرائط الكتابة المضادة، وبساتين الشّهوة، في قراءات نوعية لتجارب «ألبرتو مانغول، إدواردوغاليانو، أناييس نن، جان جنيه، فروغ فرخ زاد، غادة السّمان، أدونيس، نزيه أبو عفش، محمد شكري، زكريا تامر، أليف شفق، أمين معلوف» وآخرين، وليضع –من خلال ذلك كلّه- الملح على الجرح، واللذين سنلتقي بهما وجهاً لوجه ونحن عراة، من الصّفحة الّتي تحضر لتأكد «شهوة الكتابة المحرمة»، ولن ينتهي اللقاء/ المواجهة مع النقطة الأخيرة من السّؤال عن «عمل الطّغاة بعد انتهاء مدة صلاحيتهم؟» بل يتعداه إلى مزيد من حرقة الملح، وهو يضع «مثقفي» الحاضر أمام مسؤولياتهم الكبرى بالتخلي عن النقل لمصلحة العقل، وخاصة الذين مازال «السلف الصالح» يتحكم بمؤلفاتهم وتصرفاتهم ومصائرهم، سواءً عن حسن نية أو سوء نية، ظنّاً منهم أنّهم «سفينة نوح» الّتي ستنجي الأمة العربية من طوفان مخلفات العولمة، الّتي استفادت –بدورها- من كلّ ما أنتجته الحضارة الحديثة من وسائل اتصالات وأسلحة، لتكريس تلك التّبعية المجانية معززة بالتمزق والقتل وأصوات الرّصاص، الّتي وقع على عاتقها تشييع تنمية الإنسان بكلّ مقوماته الإبداعية والأخلاقية -في بلادنا- إلى مثواهم الأخير من دون هوية واضحة وممزقة بين علامتي ترقيم جعلا منها جملة اعتراضية بين السّلف والحداثة، من دون أن تأخذ دورها بتوضيح المعنى..
كاتب «ورّاق الحبّ» الّذي كان يرغب أن يكون ذاك التّاجر البغدادي الّذي اخترع له حكاية روائية ليمجّد الحبّ من خلالها، كونه أسّ الإنسان الّذي ينقي الماضي من الشّوائب لإبراز هوية متكافئة مع الحاضر والمستقبل، سوف يلتقي في متاهات المكتبة العربية مع فقهاء كتبوا في اللذة والشّهوات، لكن تلك المخطوطات أصابها التّلف والنّسيان والإقصاء في عفة كاذبة اخترعها فقهاء الظلام الجدد، فحرمونا كنوزاً لا تحصى، وفي المقابل تتملكنا شهوة مضادة في التّمرد على الآباء، ذلك أننا وجدنا أنفسنا في العراء، أمام لحظة زئبقية سائلة، وأخرى معدنية صلبة تحتاج إلى مطارق أخرى لصقلها ومحاكمتها والاشتباك معها بالسلاح الأبيض، هذا الاشتباك الّذي يدعونا «خليل صويلح» إلى خوض غماره ومغامراته مشروطاً على حد قول «الكندي» أن يأتي بالمعنى، جامعاً فيه صواب المراد وحلاوة الإيراد، الأمر الّذي نجده في مجمل أعمال «صويلح» الرّوائية، وسيتوجه بالدعوة إلى الاشتباك أيضاً مع القانون الّذي يقوم بحراسة تلك الشّهوة المضادة للحاضر والمستقبل، فأصبحنا كمن «يتجول بسروال الجينز في سوق الوراقين»..
وصاحب «بريد عاجل» الّذي أذهلته مرارة المشهد وهويته المعلنة وغير المعلنة في أكثر الأحيان سيقودنا، الآن إلى صندوق البريد ذاته لنفتحه بأنفسنا، ونجد بداخله مقالات تجاوزت صحفيتها وصحفها لتكون رسائل/وثائق عن أمراضنا، وهمومنا المعاصرة، وحتى وإن بدا للقارئ -في الوهلة الأولى- عدم تجانسها، إلّا أن المؤلف يريد أن يصل بنا إلى علاقة أنّ أسّ الدواء ينبع من أسّ الدّاء، وإنّ تباعدت مناطق الألم، واختلف الأطباء في تسمياتها، وصاحب «سيأتيك الغزال» كان وضع إصبعه على أصل ذاك المرض الخفي، وعقد العزم على البوح والمكاشفة به وبأسبابه ومسبباته، انطلاقاً من الشّعور بمسؤوليته كمثقف في عصر الضّياع، وإيماناً بدور شهوة الكتابة المحرمة الّتي تتجاوز القيم المبتذلة، وتجعل من كلّ نص منتجاً يشهر السّلاح الأبيض في وجه فقهاء التكفير، لأنّ الشّهوة عند «صويلح» هي قضية فكرية تتماهى بفطريتها حيناً مع الإيروتيكية وحيناً مع القلق الوجودي الإنساني، وكلاهما سوف يقومان بإنتاج أدب غايته مستقبل إنساني أكثر جمالاً.. وقوننتهما، وحراستهما بسياط العفة، وخدش الذّوق العام، هي قوننة للإنسان وفطريته ولن ينتج عن تلك السّياط سوى أصولية تحرم الإنسان من حقه بالعيش على سطح كوكبها الأزرق، لتأخذه إلى بوهيمية فراغ لطالما استجار بها من دون جدوى، وبين هذا وذاك تضيع الحرية، والحق والإنسان، وتتمزق الهوية داخل معترضتين، «والمشكلة دائماً ليست في الطّريق، بل في عجلات العربة، فقبل أن أكتب روايتي «دع عنك لومي» –يقول صاحب «زهور وسارة وناريمان» –: «كنت أتردد إلى حانة قديمة «النورماندي» تطلّ على ساحة يوسف العظمة في وسط دمشق (أغلقت أبوابها لاحقاً لتتحول إلى بنك) هناك اكتشفت أنني إزاء نص مؤجل بوجود أربعة أشخاص يترددون على الحانة نفسها، والمائدة نفسها، بمنطق صعاليك الحداثة لجهة اقتناص الفرص الطّارئة والادعاء الثّقافي، كان هؤلاء الرّافعة الثّقيلة لإنجاز هذا النّص بما يشبه الحمّى، نظراً لغزارة المادة الخام. كان مطلع الألفية الثّالثة ينذر بتحولات حداثية تتهيأ لها البلاد، من بوابة العولمة والحداثة ووسائط الميديا الجديدة، هكذا اقتحمت أجهزة الكمبيوتر المؤسسات الحكومية بصفقات مالية ضخمة تحت بند تطوير عملها، وأتمتة المعاملات الإدارية، لكن الموظفين وجدوا في هذه الشاشات فرصة لممارسة الألعاب المخزّنة في هذه الأجهزة السّحرية، لمقاومة الضّجر، قبل أن تدخل خدمة الإنترنت إلى البلاد، وأبطال روايتي خضعوا للآليات نفسها. أحدهم ارتد فجأة إلى ميراثه البدوي في مواجهة خصومه، وإذا به يستبدل الكيبورد بخنجر، وسيسترشد الآخرون بأسماء قبائل معروفة لإضافتها إلى أسمائهم القديمة كنوع من الحصانة الغائبة والحراشف الّتي تحمي الجلد من هشاشة هويته الأصلية».
والنجاة من تلك «الجنة البربرية» يؤكد «صويلح» في مجمل أعماله وآرائه الظاهرة تارةً والمخفية بين سطور حكاياته تارةً أخرى، ليس بهجر مقبرة الأسلاف بل بابتكار مدونة جديدة تعتمد كلّ ما كان  نظيفاً حاضراً وماضياً، وإن كان من داخل جغرافيتها أو من خارجها، تلك المدونة مطالبة بأقلام مثقفينا، باغتصاب كان وأخواتها على حد قول «الماغوط» وتحرير المعجم مما يثقله ويقيّد حريته تحت بند الفضيلة الكاذبة والتعصب لمآثر السّلف، أو إعادة تدويرها، رغم اختلاف ذهنيّة اللحظة الرّاهنة بآلاف الأميال عن ذهنيّة الأمس. «الآن كيف لي أن أنخرط بمعجم سفينة الصّحراء، وأنا أقود سيارتي في شوارع تزدحم بالأبراج والمولات ومحطات القطارات، ثمّ بغتةً وعند أول منعطف، في محاورة أو مجادلة أو سجال ينبغي عليّ أن أرتدي عباءة جدي السّابع عشر، وأخلع سروالي الجينز وساعتي الرّقمية، وجهازي الخليوي استجابةً لفتوى طارئة، تبثها محطة فضائية، كانت قبل قليل تعرض مجزرة، أو أغنية لمغنيّة خليعة»، وهذا ما يقع على عاتق مثقفي الحاضر اعتماداً على قاعدة «الكندي» والّتي جعلت منه الأب الشّرعي للفلسفة العربية ليكمل أحفاده العالميون مسيرة السّؤال عن جدوى العقل في تحرير الإنسان من رتق عبوديته الكونية..